مصرع القذافي.. ثالثة الأثافي
السبت 22 اكتوبر 2011
محمد سليمان الزواوي
zawawy@yahoo.com
مفكرة الاسلام: يضرب العرب المثل بكل شيء هام على أنه "ثالثة الأثافي" أي العماد الثالث الذي يستند عليه أيُّ عمل مهم، ويضربون به المثل أيضًا بالضربة القاتلة، فالأولى والثانية إن لم تقض على هدفها فإن الضربة الثالثة هي القاتلة، فيقال: رماه الله بثالثة الأثافي أي رماه بالشر كله، وكذلك كان مصرع القذافي الذي جاء ثالثًا بعد ابن علي ومبارك: فقد جاء مصرعه بصورة تمثل رسالة في حد ذاتها، خاصة لأسد سوريا وصالح اليمن، وأن مصيريهما لن يكون بحالٍ من الأحوال أفضل من سابقيهما، فمن الملاحظ أنه كلما زاد التشبث بالسلطة كانت النتيجة أسوأ: ابن علي هرب، وهو حر طليق ـ حتى الآن ـ ، ومبارك تخلى عن السلطة ولم يهرب من بلاده فاقتيد إلى السجن، ولم يعدم حتى الآن، أما القذافي فكان الأكثرهم دمويةً وتمسكًا بالحكم، فكان عقابه الأسوأ على الإطلاق، والأمر لن يختلف كثيرًا مع الأسد أو صالح؛ فكلاهما يتشبث بالسلطة ويستخدم الدماء كوسيلة للبقاء بصورة أطول في الحكم، وبالدماء ربما تكون نهايتهما أيضًا.
ومصرع القذافي يمثل رادعًا هامًّا لكل حاكم عربي، وهو بحق ثالثة الأثافي؛ لأنه كان الأكثر جبروتًا وسطوة وجنونًا في القتل والتنكيل، فلم يكن له رادع من عقل أو دين، فلم يكن يتورع عن تصفية معارضيه وتذويبهم في المحاليل وتتبعهم في الداخل والخارج حتى استقرت له أركان حكمه، أو هكذا ظن؛ فقد أثبتت الأيام أن الشعوب العربية قد تغيرت تركيبتها وجيناتها في الربيع العربي، وتحولت من الاستكانة والخضوع إلى الثورة والعزة والكرامة وتفضيل الموت على المذلة تحت حكم طاغٍ.
كما أن مصرع القذافي بهذه الطريقة البشعة تثبت أن الحاكم قوي بشعبه، ضعيف بدونهم، فأمريكا لم تستطع تصفيته على مر عقود، بعد أن قصفت منزله بالطيران واستهدفته بالعمليات العسكرية وفرضت حظرًا جويًّا على تنقلاته، وذلك لأنه كان متحصنًا وسط "شعبه" وكان هو الضمانة الوحيدة لبقائه، وعندما أراد شعبه خلعه أخرجوه من قصوره وأنزلوه من عليائه واضطروه للهروب طريدًا شريدًا حتى عثر عليه في أنبوب كجرذ، وذلك بعد أن وصف شعبه بالجرذان والحشرات، فعندها فقط كانت النهاية المأساوية لحياته الشاذة غريبة الأطوار، عندما استهان بشعبه وفقد شرعيته ودرعه الذي يحتمي فيه.
وهذا درس مؤلم لكل زعيم يرى بعينه أحد زملائه في الجامعة العربية يلقى مصرعه بتلك الطريقة المهينة، فقد كان القذافي هو وأولاده بمثابة الحجر العثرة أمام تقدم ليبيا أو تقديم الكفاءات في كل المجالات لنهضة بلاده، كما كان بمثابة الأسفنجة التي تمتص ثروات البلاد، فتشير التقديرات إلى أن ثروته هو وأولاده تجاوزت المائتي مليار دولار! وهي ميزانية عشرات من الدول، في حين كان شعبه يئن تحت وطأة الجوع والفقر والمرض والعوز، ولا يعلم أحد إلا الله مصير تلك الأموال التي امتصها من شعبه الذين قهرهم وبدلاً من أن يستغل قدراتهم وكفاءاتهم وأموالهم المنهوبة من أجل تنمية حقيقية في البلاد، عين عليهم مخبرين وشبكة مسئولين من أتباعه وعشيرته وأولاد عمومته وقرب إليه المنافقين من أجل مصلحة واحدة، هي مصلحته وكرسيه ومصلحة عائلته، في حين لم تنفعه ملياراته في النهاية ومات صريعًا على يد شعبه الذي خاطبه مستخفًّا بهم قائلاً لهم: من أنتم؟!
لقد كانت الدموية في مصرع القذافي نموذجًا وتكرارًا لحياته التي عاشها على الدماء، وقدر الله أن يموت في حقبة التقنية وأن كل مواطن بيده كاميرا في جيبه ليتم توثيق تلك اللحظة التاريخية التي يجب أن تحفظ في متحف الظلم الرسمي العربي، فحتى الآن سقط في الربيع العربي عشرات الآلاف من الشهداء كان أكثرهم في ليبيا القذافي، حيث تشير التقديرات إلى أن القتلى تجاوزوا الخمسين ألف شهيد، وأكثر من سبعين ألف جريح ومعاق، فدموية حقبة القذافي فرضت تلك الدموية على الثورة الليبية، وكما بالدم عاش، على الدم مات.
لقد كان القذافي بمثابة الترس الخطأ في آلة العمل العربي المشترك، كمثل الكثير من أقرانه في الجامعة العربية، فقد كان يمثل في العلن الصوت الثوري الجهوري القومي الوحدوي الذي يدين بقية الزعماء العرب بأنهم يخافون من أمريكا ولم يكن هو استثناء؛ بل كان يبحث عن زعامة في أي مكان يذهب إليه وكانت هي مسعاه طوال حياته، وكان دائمًا أشم الأنف، بل حتى لم يتخل عن "حنتفة" لحيته وشاربه وما تحت فمه (عنفقته) حتى وهو في أحلك الظروف! وربما تداعيات المعركة تحتم عليه التخفي أو حتى الالتحاء مثل ابنه المعتصم، إلا أنه لم يتخل عن كبره ومظهره وجبروته حتى أرغمت أنفه في التراب عندما قصف شعبه بالطائرات والمدافع بعشوائية واستهدف الأحياء السكنية بدون تمييز، وعندما سرح مرتزقته ـ الذين جاءوا من العرب والعجم من المسلمين والكفار ـ على حرائر ليبيا يغتصبونهن ويروعونهن في غيبة الرجال الذين كانوا في ساحات القتال، وهي حيلة رخيصة من مجرم لا يتورع عن انتهاك أقدس المحرمات.
لقد جاء مصرع القذافي بمثابة ثالثة الأثافي على بشار وصالح؛ ولكن يظل التدخل الأجنبي هو الحاسم في الثورة الليبية بإمداد الثوار بالسلاح والغطاء الجوي والدعم اللوجستي والاستخباراتي، ولا يستبعد أن الناتو هو من أرشد الثوار إلى مكان القذافي بعد تتبع هاتفه الثريا، وذلك للمصلحة الغربية المباشرة والواضحة في إسقاط القذافي الجار الجنوبي للاتحاد الأوروبي الذي كان يمثل لهم معضلة صعبة الفهم؛ في حين أن الثورتين السورية واليمنية لا تزال تحملان الكثير من الاحتمالات غير الواضحة للغرب، إلا أن مصير بشار وصالح لن يكون أفضل بحال من الأحوال.
فقد تلوثت أيدي الاثنين بالدماء، وقطعت طريق العودة إلى الوراء، فإما تمسك بالسلطة حتى آخر رمق، وإما الهروب ومن ثم التعرض للمحاكمات الجنائية الدولية، أو القتل على غرار القذافي على يد الثوار في حالة عسكرة الثورتين اليمنية والسورية، وهو ما بدا يلوح في الأفق بنذر المواجهة العسكرية مع كثرة الانشقاقات في صفوف الجيشين.
إن أهم الدروس المستفادة من مصرع القذافي هي تلك الرسالة الموجهة إلى الطغاة من الحكام العرب: الشعب مصدر السلطات، يجب احترام شعوبكم وإرادتهم الحرة في التغيير وفي الإصلاح وفي تقرير مصيرهم ومصير أبنائهم من بعدهم، فمن لم يحترم بعدُ إرادة الشعوب فيجب عليه أن يعيد الاطلاع على جثة القذافي.
السبت 22 اكتوبر 2011
محمد سليمان الزواوي
zawawy@yahoo.com
مفكرة الاسلام: يضرب العرب المثل بكل شيء هام على أنه "ثالثة الأثافي" أي العماد الثالث الذي يستند عليه أيُّ عمل مهم، ويضربون به المثل أيضًا بالضربة القاتلة، فالأولى والثانية إن لم تقض على هدفها فإن الضربة الثالثة هي القاتلة، فيقال: رماه الله بثالثة الأثافي أي رماه بالشر كله، وكذلك كان مصرع القذافي الذي جاء ثالثًا بعد ابن علي ومبارك: فقد جاء مصرعه بصورة تمثل رسالة في حد ذاتها، خاصة لأسد سوريا وصالح اليمن، وأن مصيريهما لن يكون بحالٍ من الأحوال أفضل من سابقيهما، فمن الملاحظ أنه كلما زاد التشبث بالسلطة كانت النتيجة أسوأ: ابن علي هرب، وهو حر طليق ـ حتى الآن ـ ، ومبارك تخلى عن السلطة ولم يهرب من بلاده فاقتيد إلى السجن، ولم يعدم حتى الآن، أما القذافي فكان الأكثرهم دمويةً وتمسكًا بالحكم، فكان عقابه الأسوأ على الإطلاق، والأمر لن يختلف كثيرًا مع الأسد أو صالح؛ فكلاهما يتشبث بالسلطة ويستخدم الدماء كوسيلة للبقاء بصورة أطول في الحكم، وبالدماء ربما تكون نهايتهما أيضًا.
ومصرع القذافي يمثل رادعًا هامًّا لكل حاكم عربي، وهو بحق ثالثة الأثافي؛ لأنه كان الأكثر جبروتًا وسطوة وجنونًا في القتل والتنكيل، فلم يكن له رادع من عقل أو دين، فلم يكن يتورع عن تصفية معارضيه وتذويبهم في المحاليل وتتبعهم في الداخل والخارج حتى استقرت له أركان حكمه، أو هكذا ظن؛ فقد أثبتت الأيام أن الشعوب العربية قد تغيرت تركيبتها وجيناتها في الربيع العربي، وتحولت من الاستكانة والخضوع إلى الثورة والعزة والكرامة وتفضيل الموت على المذلة تحت حكم طاغٍ.
كما أن مصرع القذافي بهذه الطريقة البشعة تثبت أن الحاكم قوي بشعبه، ضعيف بدونهم، فأمريكا لم تستطع تصفيته على مر عقود، بعد أن قصفت منزله بالطيران واستهدفته بالعمليات العسكرية وفرضت حظرًا جويًّا على تنقلاته، وذلك لأنه كان متحصنًا وسط "شعبه" وكان هو الضمانة الوحيدة لبقائه، وعندما أراد شعبه خلعه أخرجوه من قصوره وأنزلوه من عليائه واضطروه للهروب طريدًا شريدًا حتى عثر عليه في أنبوب كجرذ، وذلك بعد أن وصف شعبه بالجرذان والحشرات، فعندها فقط كانت النهاية المأساوية لحياته الشاذة غريبة الأطوار، عندما استهان بشعبه وفقد شرعيته ودرعه الذي يحتمي فيه.
وهذا درس مؤلم لكل زعيم يرى بعينه أحد زملائه في الجامعة العربية يلقى مصرعه بتلك الطريقة المهينة، فقد كان القذافي هو وأولاده بمثابة الحجر العثرة أمام تقدم ليبيا أو تقديم الكفاءات في كل المجالات لنهضة بلاده، كما كان بمثابة الأسفنجة التي تمتص ثروات البلاد، فتشير التقديرات إلى أن ثروته هو وأولاده تجاوزت المائتي مليار دولار! وهي ميزانية عشرات من الدول، في حين كان شعبه يئن تحت وطأة الجوع والفقر والمرض والعوز، ولا يعلم أحد إلا الله مصير تلك الأموال التي امتصها من شعبه الذين قهرهم وبدلاً من أن يستغل قدراتهم وكفاءاتهم وأموالهم المنهوبة من أجل تنمية حقيقية في البلاد، عين عليهم مخبرين وشبكة مسئولين من أتباعه وعشيرته وأولاد عمومته وقرب إليه المنافقين من أجل مصلحة واحدة، هي مصلحته وكرسيه ومصلحة عائلته، في حين لم تنفعه ملياراته في النهاية ومات صريعًا على يد شعبه الذي خاطبه مستخفًّا بهم قائلاً لهم: من أنتم؟!
لقد كانت الدموية في مصرع القذافي نموذجًا وتكرارًا لحياته التي عاشها على الدماء، وقدر الله أن يموت في حقبة التقنية وأن كل مواطن بيده كاميرا في جيبه ليتم توثيق تلك اللحظة التاريخية التي يجب أن تحفظ في متحف الظلم الرسمي العربي، فحتى الآن سقط في الربيع العربي عشرات الآلاف من الشهداء كان أكثرهم في ليبيا القذافي، حيث تشير التقديرات إلى أن القتلى تجاوزوا الخمسين ألف شهيد، وأكثر من سبعين ألف جريح ومعاق، فدموية حقبة القذافي فرضت تلك الدموية على الثورة الليبية، وكما بالدم عاش، على الدم مات.
لقد كان القذافي بمثابة الترس الخطأ في آلة العمل العربي المشترك، كمثل الكثير من أقرانه في الجامعة العربية، فقد كان يمثل في العلن الصوت الثوري الجهوري القومي الوحدوي الذي يدين بقية الزعماء العرب بأنهم يخافون من أمريكا ولم يكن هو استثناء؛ بل كان يبحث عن زعامة في أي مكان يذهب إليه وكانت هي مسعاه طوال حياته، وكان دائمًا أشم الأنف، بل حتى لم يتخل عن "حنتفة" لحيته وشاربه وما تحت فمه (عنفقته) حتى وهو في أحلك الظروف! وربما تداعيات المعركة تحتم عليه التخفي أو حتى الالتحاء مثل ابنه المعتصم، إلا أنه لم يتخل عن كبره ومظهره وجبروته حتى أرغمت أنفه في التراب عندما قصف شعبه بالطائرات والمدافع بعشوائية واستهدف الأحياء السكنية بدون تمييز، وعندما سرح مرتزقته ـ الذين جاءوا من العرب والعجم من المسلمين والكفار ـ على حرائر ليبيا يغتصبونهن ويروعونهن في غيبة الرجال الذين كانوا في ساحات القتال، وهي حيلة رخيصة من مجرم لا يتورع عن انتهاك أقدس المحرمات.
لقد جاء مصرع القذافي بمثابة ثالثة الأثافي على بشار وصالح؛ ولكن يظل التدخل الأجنبي هو الحاسم في الثورة الليبية بإمداد الثوار بالسلاح والغطاء الجوي والدعم اللوجستي والاستخباراتي، ولا يستبعد أن الناتو هو من أرشد الثوار إلى مكان القذافي بعد تتبع هاتفه الثريا، وذلك للمصلحة الغربية المباشرة والواضحة في إسقاط القذافي الجار الجنوبي للاتحاد الأوروبي الذي كان يمثل لهم معضلة صعبة الفهم؛ في حين أن الثورتين السورية واليمنية لا تزال تحملان الكثير من الاحتمالات غير الواضحة للغرب، إلا أن مصير بشار وصالح لن يكون أفضل بحال من الأحوال.
فقد تلوثت أيدي الاثنين بالدماء، وقطعت طريق العودة إلى الوراء، فإما تمسك بالسلطة حتى آخر رمق، وإما الهروب ومن ثم التعرض للمحاكمات الجنائية الدولية، أو القتل على غرار القذافي على يد الثوار في حالة عسكرة الثورتين اليمنية والسورية، وهو ما بدا يلوح في الأفق بنذر المواجهة العسكرية مع كثرة الانشقاقات في صفوف الجيشين.
إن أهم الدروس المستفادة من مصرع القذافي هي تلك الرسالة الموجهة إلى الطغاة من الحكام العرب: الشعب مصدر السلطات، يجب احترام شعوبكم وإرادتهم الحرة في التغيير وفي الإصلاح وفي تقرير مصيرهم ومصير أبنائهم من بعدهم، فمن لم يحترم بعدُ إرادة الشعوب فيجب عليه أن يعيد الاطلاع على جثة القذافي.